فصل: وسئل: عن نوم الجنب من غير وضوء؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسُئِلَ شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

أيما أفضل للجنب أن ينام ذ وضوء‏؟‏ أو يكره له النوم على غير وضوء‏؟‏ وهل يجوز له النوم في المسجد إذا توضأ من غير عذر أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الجنب يستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يعاود الوطء، لكن يكره له النوم إذا لم يتوضأ، فإنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل يرقد أحدنا وهو جنب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم، إذا توضأ للصلاة‏)‏ ويستحب الوضوء عند النوم لكل أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل‏:‏ ‏(‏إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم قل‏:‏ اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت‏)‏‏.‏

/وليس للجنب أن يلبث في المسجد،لكن إذا توضأ جاز له اللبث فيه عند أحمد وغيره، واستدل بما ذكره بإسناده عن هشام بن سعد‏:‏ أن أصحاب رسول الله كانوا يتوضؤون وهم جنب‏.‏ ثم يجلسون في المسجد‏.‏ ويتحدثون‏.‏ وهذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمر الجنب بالوضوء عند النوم ، وقد جاء في بعض الأحاديث أن ذلك كراهة أن تقبض روحه وهو نائم، فلا تشهد الملائكة جنازته، فإن في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جنب‏)‏ وهذا مناسب لنهيه عن اللبث في المسجد فإن المساجد بيوت الملائكة، كما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن آكل الثوم والبصل عند دخول المسجد‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم‏)‏‏.‏

فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب بالوضوء عند النوم، دل ذلك على أن الوضوء يرفع الجنابة الغليظة، وتبقي مرتبة بين المحدث وبين الجنب ولم يرخص له فيما يرخص فيه للمحدث من القراءة، ولم يمنع مما يمنع منه الجنب من اللبث في المسجد، فإنه إذا كان وضوؤه عند النوم يقتضي شهود الملائكة له، دل على أن الملائكة تدخل المكان الذي هو فيه إذا توضأ؛ ولهذا يجوز الشافعي وأحمد للجنب المرور في المسجد، بخلاف قراءة القرآن، فإن الأئمة الأربعة متفقون على منعه من ذلك؛ فعلم أن /منعه من القرآن أعظم من منعه من المسجد‏.‏

وقد تنازع العلماء في منع الكفار من دخول المسجد، والمسلمون خير من الكفار، ولو كانوا جنبًا، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة لما لقيه وهو جنب، فانخنس منه فاغتسل ثم أتاه فقال‏:‏ ‏(‏أين كنت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ إني كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك إلا على طهارة، فقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله‏!‏ إن المؤمن لا ينجس‏)‏‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فلبث المؤمن الجنب إذا توضأ في المسجد أولى من لبث الكافر فيه عند من يجوز ذلك، ومن منع الكافر لم يجب أن يمنع المؤمن المتوضئ، كما نقل عن الصحابة‏.‏

وإذا كان الجنب يتوضأ عند النوم، والملائكة تشهد جنازته حينئذ، علم أن النوم لا يبطل الطهارة الحاصلة بذلك، وهو تخفيف الجنابة، وحينئذ فيجوز أن ينام في المسجد حيث ينام غيره، وإذا كان النوم الكثير ينقض الوضوء، فذاك هو الوضوء الذي يرفع الحدث الأصغر، ووضوء الجنب هو تخفيف الجنابة، وإلا فهذا الوضوء لا يبيح له ما يمنعه الحدث الأصغر‏:‏ من الصلاة، والطواف ومس المصحف‏.‏

/ باب التيمم

قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ‏:‏

الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

/والتيمم في اللغة‏:‏ هو القصد، ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

تيممت الماء الذي دون ضارج ** يميل عليها الظل عرمضها طامي

العرماض‏:‏ الطحلب‏.‏ لكن لما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، كان التيمم المأمور به هو تيمم الصعيد الطيب، للتمسح به، فصار لفظ التيمم إذا أطلق في عرف الفقهاء انصرف إلى هذا التيمم الخاص، وقد يراد بلفظ التيمم نفس مسح اليدين والوجه، فسمي المقصود بالتيمم تيممًا‏.‏

وهذا التيمم المأمور به في الآية هو من خصائص المسلمين، ومما فضلهم الله به على غيرهم من الأمم، ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏.‏ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏)‏، وهذا لفظ البخاري‏.‏

/وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏فضلت على الأنبياء بست‏:‏ أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون‏)‏‏.‏

ولمسلم ـ أيضًا ـ عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فضلت على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء‏)‏‏.‏ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت‏.‏ وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ نكرة في سياق الإثبات كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏92‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وهذه تسمي مطلقة، وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، فيدل ذلك على أنه يتيمم أي صعيد طيب، اتفق‏.‏ والطيب هو الطاهر، والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع، وفيما سواه نزاع سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

/وقوله‏:‏‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ قد اتفق القراء السبعة على قراءة أيديكم بالإسكان؛ بخلاف قوله في الوضوء‏:‏ ‏{‏وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ فإن بعض السبعة قرأوا‏:‏ ‏{‏وأرجلَكم‏}‏ بالنصب، قالوا‏:‏ إنها معطوفة على المغسول، تقديره‏:‏ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وأرجلكم إلى الكعبين كذلك‏.‏ قال علي بن أبي طالب وغيره من السلف‏:‏ قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ قرأ على الحسن والحسين‏:‏ ‏{‏وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ بالخفض فسمع ذلك علي بن أبي طالب، وكان يقضي بين الناس فقال‏:‏ وأرجلكم يعني بالنصب، وقال‏:‏هذا من المقدم المؤخر في الكلام‏.‏ وكذلك ابن عباس قرأها بالنصب، وقال‏:‏ عاد الأمر إلى الغسل، ولا يجوز أن يكون ذلك عطفًا على المحل، كما يظنه بعض الناس كقول بعض الشعراء‏:‏

معاوي‏:‏ إننا بشر فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فإنما يسوغ في حرف التأكيد مثل المباني، وأما حروف المعاني فلا يجوز ذلك فيها‏.‏ والباء هنا للإلصاق، ليست للتوكيد، ولهذا لم يقرأ القراء هنا وأيديكم، كما قرأوا هناك وأرجلكم؛ لأنه لو قال‏:‏ فامسحوا وجوهكم وأيديكم، أو امسحوا بها، لكان يكتفي بمجرد المسح من غير إيصال للطهور إلى الرأس، وهو خلاف الإجماع، فلما كانت الباء للالصاق دل على أنه لابد من إلصاق الممسوح به، فدل ذلك على/ استعمال الطهور، ولهذا كانت هذه الباء لا تدل على التبعيض عند أحد من السلف، وأئمة العربية‏.‏

ولا قال الشافعي‏:‏ إن التبعيض يستفاد من الباء،بل أنكر إمام الحرمين وغيره من أصحابه ذلك، وحكوا كلام أئمة العربية في إنكار ذلك، ولكن من قال بذلك استند إلى دلالة أخرى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ دلت هذه الآية على أن التراب طهور كما صرحت بذلك السنة الصحيحة في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏)‏ وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير‏)‏‏.‏ رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي والترمذي وهذا لفظه‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

وقد اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر تيمم وصلى، إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء فعليه استعماله‏.‏

وكذلك تيمم الجنب‏:‏ ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف/ إلى أنه يتيمم إذا عدم الماء في السفر، إلى أن يجد الماء، فإذا وجده كان عليه استعماله، وقد روي عن عمر وابن مسعود إنكار تيمم الجنب، وروي عنهما الرجوع عن ذلك، وهو قول أكثر الصحابة‏:‏ كعلى، وعمار، وابن عباس، وأبي ذر، وغيرهم‏.‏ وقد دل عليه آيات من كتاب الله وخمسة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

منها‏:‏ حديث عمار بن ياسر، وعمران بن حصين، كلاهما في الصحيحين ، ومنها‏:‏ حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي ، ومنها‏:‏ حديث عمرو بن العاص ، وحديث الذي شج فأفتوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال‏)‏ ففي الصحيح عن عمر أنه قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال‏:‏ ‏(‏ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ أصابتني جنابة ولا ماء، قال‏:‏ ‏(‏عليك بالصعيد، فإنه يكفيك‏)‏‏.‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏

وفي الصحيحين عن عمار بن ياسر قال‏:‏ بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد، كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال‏:‏ ‏(‏إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا‏)‏، ثم ضرب بيديه الأرض/ ضربة واحدة،ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه‏.‏ وهذا لفظ مسلم‏.‏

 فَصْـــل

وقد تنازع العلماء في التيمم‏:‏ هل يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، أم الحدث قائم ولكنه تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع‏؟‏ وهذه مسألة نظرية‏.‏

وتنازعوا هل يقوم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء‏؟‏ على قولين مشهورين وهو نزاع عملي‏.‏

فمذهب أبي حنيفة أنه يتيمم قبل الوقت، ويبقي بعد الوقت، ويصلي به ما شاء كالماء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، والثوري، وغيرهم‏.‏ وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه لا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعد خروجه‏.‏/ ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ يتيمم لوقت كل صلاة، ومنهم من يقول‏:‏ يتيمم لفعل كل فريضة، ولا يجمع به فرضين‏.‏ وغلا بعضهم فقال‏:‏ ويتيمم لكل نافلة، وهذا القول في الجملة هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه طهارة ضرورية، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها، فإذا تيمم في وقت يستغني عن التيمم فيه لم يصح تيممه، كما لو تيمم مع وجود الماء‏.‏

قالوا‏:‏ ولأن الله أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد الماء تيمم، وكان ظاهر الخطاب يوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء والتيمم لكن لما ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد‏.‏ رواه مسلم في صحيحه، دلت السنة على جواز تقديم الوضوء قبل وقت وجوبه، وبقي التيمم على ظاهر الخطاب، وعلل ذلك بعضهم بأنه مأمور بطلب الماء عند كل صلاة، وذلك يبطل تيممه‏.‏

وورد عن علي، وعمرو بن العاص، وابن عمر، مثل قولهم‏.‏ ولنا أنه قد ثبت بالكتاب والسنة‏:‏ أن التراب طهور، كما أن الماء طهور‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك خير‏)‏ فجعله مطهرًا عند عدم الماء مطلقًا‏.‏ فدل على أنه مطهر /للمتيمم‏.‏ وإذا كان قد جعل المتيمم مطهرًا كما أن المتوضئ مطهر، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل أن خروج الوقت يبطل، كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء، دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول‏.‏

فإن التيمم بدل عن الماء، والبدل يقوم مقام المبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلاً له في صفته، كصيام الشهرين، فإنه بدل عن الاعتاق وصيام الثلاث والسبع فإنه بدل عن الهدي في التمتع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين فإنه بدل عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المبدل، وهذا لازم لمن يقيس التيمم على الماء في صفته، فيوجب المسح على المرفقين، وإن كانت آية التيمم مطلقة، كما قاس عمار لما تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة، فمسح جميع بدنه كما يغسل جميع بدنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فساد هذا القياس، وأنه يجزئك من الجنابة التيمم الذي يجزئك في الوضوء ، وهو مسح الوجه واليدين؛ لأن البدل لا تكون صفته كصفة المبدل، بل حكمه حكمه، فإن التيمم مسح عضوين، وهما العضوان المغسولان في الوضوء، وسقط العضوان الممسوحان، والتيمم عن الجنابة يكون في هذين العضوين بخلاف الغسل‏.‏

والتيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق، بخلاف الوضوء، والتيمم/لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث، بخلاف الوضوء، والتيمم يفارق صفة الوضوء من وجوه، ولكن حكمه حكم الوضوء؛ لأنه بدل منه، فيجب أن يقوم مقامه كسائر الأبدال، فهذا مقتضي النص والقياس‏.‏

فإن قيل‏:‏ الوضوء يرفع الحدث، والتيمم لا يرفعه‏.‏

قيل‏:‏ عن هذا جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه؛ فإن الشارع جعله طهورًا عند عدم الماء يقوم مقامه، فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما يثبت للماء، ما لم يقم دليل شرعي على خلاف ذلك‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏قول القائل‏:‏ يرفع الحدث أو لا يرفعه ليس تحته نزاع عملي، وإنما هو نزاع اعتباري لفظي، وذلك أن الذين قالوا‏:‏ لا يرفع الحدث، قالوا‏:‏ لو رفعه لم يعد إذا قدر على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء‏.‏

والذين قالوا‏:‏ يرفع الحدث، إنما قالوا برفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، فلم يتنازعوا في حكم عملي شرعي، ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة تخصيص العلة، وأن/المناسبة هل تنخرم بالمعارضة، وأن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه مع بقاء ذاته ‏؟‏

وكشف الغطاء عن هيئة النزاع، أن لفظ العلة يراد به العلة التامة وهو مجموع ما يستلزم الحكم، بحيث إذا وجد وجد الحكم، ولا يتخلف عنه، فيدخل في لفظ العلة على هذا الاصطلاح جبر العلة وشروطها، وعدم المانع؛ إما لكون عدم المانع يستلزم وصفًا ثبوتيا على رأي، وإما لكون العدم قد يكون جبرًا من المقتضي على رأي، وهذه العلة متي تخصصت وانتقضت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها، كما لو علل معلل قصر الصلاة بمطلق العذر‏.‏ قيل له‏:‏ هذا باطل، فإن المريض ونحوه من أهل الأعذار لا يقصرون، وإنما يقصر المسافر خاصة، فالقصر دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، ودوران الحكم مع الوصف وجودًا وعدمًا دليل على المدار عليه للدائر، وكما لو علل وجوب الزكاة بمجرد ملك النصاب، قيل له‏:‏ هذا ينتقض بالملك قبل الحول‏.‏

وقد يراد بلفظ العلة ما يقتضي الحكم، وإن توقف على ثبوت شروط وانتفاء موانع‏.‏

وقد يعبر عن ذلك بلفظ السبب، فيقال‏:‏ الأسباب المثبتة للإرث/ ثلاثة‏:‏ رحم، ونكاح، وولاء‏.‏ وعند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين يثبت بعقد الموالاة وغيرها، فالعلة هنا قد يتخلف عنها الحكم المانع‏:‏ كالرق، والقتل، واختلاف الدين‏.‏

فإذا أريد بالعلة هذا المعنى جاز تخصيصها لفوات شرط ووجود مانع‏.‏ فأما إن لم يبين المعلل بين صورة النقض وبين غيرها فرقًا مؤثرًا بطل تعلىله، فإن الحكم اقترن بالوصف تارة كما في الأصل، وتخلف عنه تارة كما في الأصل، ويختلف عنه تارة كما في صورة النقض‏.‏

والمستدل إن لم ييبن أن الفرع مثل الأصل دون صورة النقض، فلم يكن إلحاقه بالأصل في ثبوت الحكم أولى من إلحاقه بصورة النقض في انتفائه؛ لأن الوصف موجود في الصور الثلاث، وقد اقترن به الحكم في الواحدة دون الأخرى، وشككنا في الصورة الثالثة‏.‏

وهذا كما لو اشترك ثلاثة في القتل‏:‏ فقتل الأولىاء واحدًا، ولم يقتلوا آخر إما لبذل الدية، وإما لإحسان كان له عندهم، والثالث لم يعرف أهو كالمقتول أو كالمعفو عنه، فإنا لا نلحقه بأحدهما إلا بدليل يبين مساواته له دون مساواته للآخر‏.‏

إذا عرف هذا فالأصوليون والفقهاء متنازعون في استحلال الميتة/عند الضرورة، فمنهم من يقول‏:‏ قد استحل المحظور مع قيام السبب الحاظر، وهو ما فيها من حيث التغذية‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ الضرورة ما أزالت حكم السبب وهو التحريم إزالة اقتضاء للحظر، فلم يبق في هذه الحال حاظر؛ إذ يمتنع زوال الحظر مع وجود مقتضيه التام‏.‏

وفصل النزاع‏:‏ أنه إن أريد بالسبب الحاظر السبب التام، وهو ما يستلزم الحظر، فهذا يرتفع عند المخمصة، فإن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والحل ثابت في هذه الحال، فيمتنع وجود السبب المستلزم له‏.‏ وإن أريد بالسبب المقتضي للحظر لولا المعارض الراجح، فلا ريب أن هذا موجود حال الحظر، لكن المعارض الراجح أزال اقتضاءه للحظر، فلم يبق في هذه الحال مقتضيا، فإذا قدر زوال المخمصة عمل السبب عمله لزوال المعارض له‏.‏

وهكذا القول في كون التيمم يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإنه فرع على قول من يقول‏:‏ إنه يرفع الحدث، فصاحب هذا القول إذا تبين له أنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود هذا المعنى ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، والماء يكون طهورًا إذا أزال الحدث،وإلا مع وجود الجنابة/يمتنع حصول الطهارة، فصاحب هذا القول إنما قال‏:‏ إنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود، وهذا ممكن ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، وإنما يكون طهورًا إذا أزال الحدث، وإلا فمع بقاء الحدث لا يكون طهورًا‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه ليس برافع ولكنه مبيح، والحدث هو المانع للصلاة، وأراد بذلك أنه مانع تام، كما يكون مع وجود الماء، فهذا غالط، فإن المانع التام مستلزم للمنع، والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها، ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع‏.‏ وإن أريد أن سبب المنع قائم ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه، فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال، فهذا صحيح‏.‏

وكذلك من قال‏:‏ هو رافع للحدث‏.‏إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء، فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطًا، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع‏:‏ أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله، وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية، بخلاف الماء‏.‏

وإن قال‏:‏ أريد برفعه أنه رفع منع المانع فلم يبق مانعًا إلى حين وجود الماء، فقد أصاب، وليس بين القولين نزاع شرعي عملي‏.‏

/وعلى هذا فيقال‏:‏ على كل من القولين لم يبق الحدث مانعًا مع وجود طهارة التيمم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا، لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء، ولم يشترط في كونه مطهرًا شرطًا آخر، فالمتيمم قد صار طاهرًا وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء، فما لم يجد الماء فالمنع زائل، إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة، كما يوجب طهارة الماء، وحينئذ فيكون طهورًا قبل الوقت وبعد الوقت وفي الوقت، كما كان الماء طهورًا في هذه الأحوال الثلاثة ، وليس بين هذا فرق مؤثرًا إلا إذا قدر على استعمال الماء، فمن أبطله بخروج الوقت فقد خالف موجب الدليل‏.‏

وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك رخصة عامة لأمته، ولم يفصل بين أن يقصد التيمم بفرض أو نفل، أو تلك الصلاة أو غيرها كما لو يفصل في ذلك في الوضوء، فيجب التسوية بينهما، والوضوء قبل الوقت فيه نزاع، لكن النزاع في التيمم أشهر‏.‏

وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر، كلاهما متطهر فعل ما أمر الله به؛ ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، كما فعل عمرو بن العاص وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما فعل ابن عباس حيث وطئ جارية له ثم صلى بأصحابه بالتيمم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ومذهب أبي/ يوسف، وغيره‏.‏ لكن محمد بن الحسن لم يجوز ذلك؛ لنقص حال المتيمم‏.‏

وأيضًا، كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سببا حادثا لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة؛ إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواء‏.‏ والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها، فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة، لا يبطل بالأزمنة، وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا ينتقض بطهارة الماسح على الخفين، وطهارة المستحاضة، وذوي الأحداث الدائمة‏.‏

قيل‏:‏ أما طهارة المسح على الخفين فليست واجبة، بل هو مخير بين المسح وبين الخلع والغسل؛ ولهذا وقتها الشارع، ولم يوقتها بدخول وقت صلاة، ولا خروجها، ولكن لما كانت رخصة ليست بعزيمة حد لها وقتًا محدودًا في الزمن، ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم؛ ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى، ولهذا لما كانت طهارة المسح على الجبيرة عزيمة لم تتوقت بل يمسح عليها ، إلى أن يحلها، ويمسح في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما يتيمم عن الحدثين الأصغر والأكبر، فإلحاق التيمم بالمسح على الجبيرة أولى من إلحاقه بالمسح على الخفين‏.‏

/وأما ذوو الأحداث الدائمة‏:‏ كالمستحاضة، فأولئك وجد في حقهم السبب الموجب للحدث، وهو خروج الخارج النجس من السبيلين، ولكن لأجل الضرورة رخص لهم الشارع في الصلاة معه، فجاز أن تكون الرخصة مؤقتة؛ ولهذا لو تطهرت المستحاضة ولم يخرج منها شيء لم تنتقض طهارتها بخروج الوقت، وإنما تنتقض إذا خرج الخارج في الوقت فإنها تصلي به إلى أن يخرج الوقت، ثم لا تصلي لوجود الناقض للطهارة بخلاف المتيمم، فإنه لم يوجد بعد تيممه ما ينقض طهارته‏.‏

والتيمم كالوضوء فلا يبطل تيممه إلا مايبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناء على قولنا، وقول من وافقنا على التوقيت في مسح الخفين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة، فإن هذا مذهب الثلاثة‏:‏ أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏

وأما من لم ينقض الطهارة بهذا، أو لم يوقت هذا كمالك، فإنه لا يصلح لمن قال بهذا القول المعارضة بهذا وهذا؛ فإنه لا يتوقت عنده لا هذا ولا هذا، فالتيمم أولى أن لا يتوقت‏.‏

وقول القائل‏:‏ إن القائم إلى الصلاة مأمور بإحدى الطهارتين‏.‏

قيل‏:‏ نعم، يجب عليه، لكن إذا كان قد تطهر قبل ذلك فقد/ أحسن،وأتي بالواجب قبل هذا، كما لو توضأ قبل هذا، فإن كونه على طهارة قبل الوقت إلى حين الوقت أحسن من أن يبقي محدثًا، وكذلك المتيمم إذا كان قد أحسن بتقديم طهارته لكونه على طهارة قبل الوقت أحسن من كونه على غير طهارة، وقد ثبت بالكتاب والسنة أنها طهارة، حتى ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه السلام، وقال‏:‏ ‏(‏كرهت أن أذكر الله إلا على طهر‏)‏‏.‏

وإذا كان تطهر قبل الوقت كان قد أحسن، وأتي بأفضل مما وجب عليه، وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدي أكثر من الواجب في الزكاة، وغيرها، وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كله حسن، إذا لم يكن محظورًا، كزيادة ركعة خامسة في الصلاة‏.‏ والتيمم مع عدم الماء حسن ليس بمحرم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة، ولمس المصحف، وقراءة القرآن، وما ذكر من الأثر عن بعض الصحابة فبعضه ضعيف، وبعضه معارض بقول غيره، ولا إجماع في المسألة‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

/ فَصْـــل

وأما الصعيد‏:‏ ففيه أقوال، فقيل‏:‏ يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض، وإن لم يعلق بيده؛ كالزَّرْنيخ، الزرنيخ‏:‏ حجر منه أبيض وأحمر وأصفر‏.‏ والنَّوْرة، النورة‏:‏ الزهر الأبيض، والجَصّ، الجَصّ‏:‏ هو ما يطلي به، وهو معرب، وكالصخرة الملساء، فأما ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمم به‏.‏ وهو قول أبي حنيفة‏.‏ ومحمد يوافقه، لكن بشرط أن يكون مغبرًا لقوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز بالأرض، وبما اتصل بها حتى بالشجر، كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر، والمدر، وهو قول مالك، وله في الثلج روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يجوز التيمم به، وهو قول الأوزاعي والثوري‏.‏ وقيل يجوز بالتراب والرمل، وهو أحد قولي أبي يوسف، وأحمد في إحدى الروايتين، وروي عنه أنه يجوز بالرمل عند عدم التراب‏.‏

وقيل‏:‏ لا يجوز إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد، وهو قول أبي يوسف، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏

/واحتج هؤلاء بقوله‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وهذا لا يكون إلا فيما يعلق بالوجه وإلىد، والصخر لا يعلق لا بالوجه ولا باليد واحتجوا بأن ابن عباس قال‏:‏ الصعيد الطيب تراب الحرث، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وجعلت تربتها طهورًا‏)‏ قالوا‏:‏ فعم الأرض بحكم المسجد، وخص تربتها ـ وهو ترابها ـ بحكم الطهارة‏.‏

قالوا‏:‏ ولأن الطهارة بالماء اختصت من بين سائر المائعات بما هو ماء في الأصل، فكذلك طهارة التراب تختص بما هو تراب في الأصل، وهما الأصلان اللذان خلق منهما آدم‏:‏ الماء، والتراب‏.‏ وهما العنصران البسيطان، بخلاف بقية المائعات والجامدات، فإنها مركبة‏.‏

واحتج الأولون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صَعِيدًا‏}‏ قالوا‏:‏ والصعيد هو الصاعد على وجه الأرض، وهذا يعم كل صاعد، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏8‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 40‏]‏‏.‏ واحتج من لم يخص الحكم بالتراب بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏فعنده مسجده وطهوره‏)‏، فهذا يبين أن المسلم في أي موضع كان عنده مسجده وطهوره‏.‏

/ومعلوم أن كثيرًا من الأرض ليس فيها تراب حرث، فإن لم يجز التيمم بالرمل كان مخالفًا لهذا الحديث، وهذه حجة من جوز التيمم بالرمل دون غيره، أو قرن بذلك السبخة؛ فإن من الأرض ما يكون سبخة‏.‏ واختلاف التراب بذلك كاختلافه بالألوان، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوره على قدر تلك القبضة‏:‏ جاء منهم الأسود، والأبيض وبين ذلك، وجاء منهم السهل والحزن وبين ذلك، ومنهم الخبيث والطيب، وبين ذلك‏)‏‏.‏

وآدم إنما خلق من تراب، والتراب الطيب والخبيث‏:‏ الذي يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا، يجوز التيمم به فعلم أن المراد بالطيب الطاهر، وهذا بخلاف الأحجار والأشجار، فإنها ليست من جنس التراب، ولا تعلق باليد، بخلاف الزرنيخ والنورة فإنها معادن في الأرض، لكنها لا تنطبع كما ينطبع الذهب والفضة والرصاص والنحاس‏.‏

/ قال الشيخ الإمام العالم مفتي الأنام، المجتهد الفقيه الإمام‏:‏ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ـ رحمه الله ورضي عنه‏:‏

قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ‏.‏

هذا الخطاب يقتضي‏:‏ أن كل قائم إلى الصلاة فإنه مأمور بما ذكر من الغسل‏.‏ والمسح‏.‏ وهو الوضوء‏.‏

/وذهبت طائفة‏:‏ إلى أن هذا عام مخصوص‏.‏

وذهبت طائفة‏:‏ إلى أنه يوجب الوضوء على كل من كان متوضئًا وكلا القولين ضعيف‏.‏

فأما الأولون‏:‏ فإن منهم من قال‏:‏ المراد بهذا‏:‏ القائم من النوم وهذا معروف عن زيد بن أسلم، ومن وافقه من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم‏.‏

قالوا‏:‏ الآية أوجبت الوضوء على النائم بهذا، وعلى المتغوط بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ‏}‏ وعلى لامس النساء بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ وهذا هو الحدث المعتاد‏.‏ وهو الموجب للوضوء عندهم‏.‏

ومن هؤلاء من قال‏:‏ فيها تقديم وتأخير‏.‏ تقديره‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏

فيقال‏:‏ أما تناولها للقائم من النوم المعتاد، فظاهر لفظها يتناوله‏.‏ وأما كونها مختصة به، بحيث لا تتناول من كان مستيقظًا وقام إلى الصلاة، فهذا ضعيف‏.‏ بل هي متناولة لهذا لفظًا ومعنى‏.‏

وغالب الصلوات يقوم الناس إليها من يقظة، لا من نوم‏:‏/كالعصر والمغرب والعشاء‏.‏ وكذلك الظهر في الشتاء، لكن الفجر يقومون إلىها من نوم‏.‏ وكذلك الظهرفي القائلة‏.‏ والآية تعم هذا كله‏.‏

لكن قد يقال‏:‏ إذا أمرت الآية القائم من النوم؛ لأجل الريح التي خرجت منه بغير اختياره، فأمرها للقائم الذي خرج منه الريح في اليقظة أولى وأحرى، فتكون ـ على هذا ـ دلالة الآية على اليقظان بطريق تنبيه الخطاب وفحواه‏.‏ وإن قيل‏:‏ إن اللفظ عام، يتناول هذا بطريق العموم اللفظي‏.‏

فهذان قولان متوجهان‏.‏ والآية على القولين عامة‏.‏ وتعم ـ أيضًا ـ القيام إلى النافلة بالليل والنهار، والقيام إلى صلاة الجنازة، كما سنبينه ـ إن شاء الله‏.‏

فمتي كانت عامة لهذا كله‏:‏ فلا وجه لتخصيصها‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو قد أحدثتم‏.‏ فإن المتوضئ ليس عليه وضوء‏.‏ وكل هذا عن الشافعي ـ رحمه الله ـ ويوجبه الشافعي في التيمم‏.‏ فإن ظاهر القرآن يقتضي وجوب الوضوء والتيمم على كل قائم يخالف هذا‏.‏

/فإن كان قد قال هذا‏:‏ كان له قولان‏.‏

ومن المفسرين من يجعل هذا قول عامة الفقهاء من السلف والخلف؛ لاتفاقهم على الحكم‏.‏ فيجعل اتفاقهم على هذا الحكم اتفاقًا على الإضمار، كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي‏.‏ قال‏:‏ وللعلماء في المراد بالآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فصار الحدث مضمرًا في وجوب الوضوء‏.‏ وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى، وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ والفقهاء‏.‏

قال‏:‏ والثاني، أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثًا كان أو غير محدث‏.‏

وهذا مروي عن عكرمة وابن سيرين‏.‏

ونقل عنهم‏:‏ أن هذا الحكم غير منسوخ‏.‏ ونقل عن جماعة من العلماء‏:‏ أن ذلك كان واجبًا بالسنة‏.‏ وهو ما روي بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏عمدًا فعلته يا عمر‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ أما الحكم ـ وهو أن من توضأ لصلاة صلى بذلك/ الوضوء صلاة أخرى ـ فهذا قول عامة السلف والخلف‏:‏ والخلاف في ذلك شاذ‏.‏ وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى، فإنه قد ثبت بالتواتر أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعًا، جمع بهم بين الصلاتين وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله‏.‏ ولما سلم من الظهر، صلى بهم العصر، ولم يحدث وضوءًا لا هو ولا أحد، ولا أمر الناس بإحداث وضوء، ولا نقل ذلك أحد، وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقًا‏.‏

وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ وفيه عن أحمد ـ رحمه الله ـ روايتان‏.‏

وكذلك ـ أيضًا ـ لما قدم مزدلفة‏:‏ صلى بهم المغرب والعشاء جمعًا من غير تجديد وضوء العشاء‏.‏ وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة‏.‏ وأقام لكل صلاة إقامة‏.‏ وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأنس ـ رضي الله عنهم‏.‏ كلها تقتضي‏:‏ أنه هو صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون خلفه ـ صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى، لم يحدثوا لها وضوءًا‏.‏

/وكذلك هو صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم أنه كان يتوضأ لصلاة الليل‏.‏ فيصلي به الفجر مع أنه كان ينام حتى يغط‏.‏ ويقول‏:‏ ‏(‏تنام عيناي ولا ينام قلبي‏)‏، فهذا أمر من أصح ما يكون أنه‏:‏ كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأه للنافلة، يصلي به الفريضة‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إنه كان يتوضأ لكل صلاة‏؟‏

وقد ثبت عنه في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، ثم قدم عليه وفد عبد القيس‏.‏ فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر، ولم يحدث وضوءًا‏.‏

وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة‏.‏ وتارة النافلة ثم الفريضة‏.‏ وتارة فريضة ثم فريضة‏.‏ كل ذلك بوضوء واحد‏.‏

وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة‏.‏

وكان المسلمون على عهده يتوضؤون ثم يصلون ما لم يحدثوا، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة‏.‏ ولم ينقل عنه ـ لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ـ‏:‏ أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة‏.‏

/فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل‏.‏

وأما القول بوجوبه‏:‏ فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الصحابة‏.‏ والنقل عن على ـ رضي الله عنه ـ بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه‏.‏ وعلى ـ رضي الله عنه ـ أجل من أن يخفى عليه مثل هذا، والكذب على علي كثير مشهور، أكثر منه على غيره‏.‏

وأحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين ـ أنكر أن يكون في هذا نزاع‏.‏ وقال أحمد بن القاسم‏:‏ سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد، فقال‏:‏ لا بأس بذلك، إذا لم ينتقض وضوؤه‏.‏ ما ظننت أن أحدًا أنكر هذا‏.‏

وروى البخاري في صحيحه عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة‏.‏ قالت‏:‏ وكيف كنتم تصنعون‏؟‏ قال‏:‏ يجزئ أحدنا الوضوء، ما لم يحدث‏.‏ وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة‏.‏ ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين، مع أنه كان أحيانًا يصلى صلوات بوضوء واحد‏.‏ كما في صحيح مسلم عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، ومسح علي خفيه‏.‏ فقال له عمر‏:‏ إني /رأيتك صنعت شيئًا لم تكن صنعته‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عمدًا صنعته يا عمر‏)‏‏.‏

والقرآن ـ أيضًا ـ يدل علي أنه لا يجب علي المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فقد أمر من جاء من الغائط، ولم يجد الماء، أن يتيمم الصعيد الطيب، فدل علي أن المجيء من الغائط يوجب التيمم‏.‏ فلو كان الوضوء واجبًا علي من جاء من الغائط ومن لم يجئ، فإن التيمم أولي بالوجوب‏.‏ فإن كثيرًا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة‏.‏ وعلي هذا، فلا تأثير للمجيء من الغائط‏.‏ فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم، وإن لم يجئ من الغائط‏.‏ ولو جاء من الغائط، ولم يقم إلى الصلاة، لا يجب عليه وضوء ولا تيمم، فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثًا علي قول هؤلاء‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه ـ سبحانه ـ خاطب المؤمنين‏.‏ لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم، وكل بني آدم محدث‏.‏ والأصل فيهم‏:‏ الحدث الأصغر‏.‏ فإن أحدهم من حين كان طفلاً قد اعتاد ذلك، فلايزال محدثًا، بخلاف الجنابة‏.‏ فإنها إنما تعرض لهم/عند البلوغ‏.‏ والأصل فيهم‏:‏ عدم الجنابة‏.‏ كما أن الأصل فيهم‏:‏ عدم الطهارة الصغري؛ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ‏}‏ فأمرهم بالطهارة الصغري مطلقًا؛ لأن الأصل‏:‏ أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضؤوا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وليس منهم جنب إلا من أجنب؛ فلهذا فرق ـ سبحانه ـ بين هذا وهذا‏.‏

الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة، فدل علي أن القيام هو السبب الموجب للوضوء‏.‏ وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبًا حينئذ وجوبًا مضيقًا‏.‏ فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك، فقد أدي هذا الواجب قبل تضيقه‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة، وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره‏.‏ فإذا سعى إليها قبل النداء، فقد سابق إلى الخيرات، وسعى قبل تضيق الوقت‏.‏ فهل يقول عاقل‏:‏ إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء‏؟‏

وكذلك الوضوء‏:‏ إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال، أو للمغرب قبل غروب الشمس، أو للفجر قبل طلوعه، وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت، فمن قال‏:‏ إن عليه أن يعيد الوضوء، فهو /بمنزلة من يقول‏:‏ إن عليه أن يعيد السعي إذا أتي الجمعة قبل النداء‏.‏

والمسلمون علي عهد نبيهم كانوا يتوضؤون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجلها، ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب‏.‏ وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد‏.‏ فهؤلاء لو لم يتوضؤوا قبل المغرب‏:‏ لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعًا لبعد المواضع‏.‏ وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتوضأ بعد الغروب، ولا من حضر عنده في المسجد، ولا كان يأمر أحدًا بتجديد الوضوء بعد المغرب‏.‏ وهذا كله معلوم مقطوع به‏.‏ وما أعرف في هذا خلافًا ثابتـًا عن الصحابة‏:‏ أن من توضأ قبل الوقت، عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت‏.‏ ولا يستحب ـ أيضًا ـ لمثل هذا تجديد وضوء‏.‏

وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول‏:‏ هل يستحب له التجديد‏؟‏ وأما من لم يصل به، فلا يستحب له إعادة الوضوء، بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت‏.‏

فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه، كالساعي إلى الجمعة قبل النداء، وكمن قضى الدين قبل حلوله؛ ولهذا /قال الشافعي وغيره‏:‏ إن الصبي إذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة؛ لأنها تلك الصلاة بعينها، سابق إليها قبل وقتها‏.‏ وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من إيجاب الإعادة‏.‏ ومن أوجبها قاسه على الحج، وبينهما فرق‏.‏ كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وهذا الذي ذكرناه في الوضوء هو بعينه في التيمم؛ ولهذا كان قول العلماء‏:‏ إن التيمم كالوضوء ،فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء‏.‏ وإن تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة، فيصلى به الفريضة وغيرها، كما هو قول ابن عباس‏.‏ وهو مذهب كثير من العلماء ـ أبي حنيفة وغيره ـ وهو أحد القولين عن أحمد‏.‏

والقول الآخر ـ وهو التيمم لكل صلاة ـ هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد، وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه‏.‏

فالآية محكمة ولله الحمد‏.‏ وهي على ما دلت عليه، من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء‏.‏ فإن كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه، وسارع إلى الخيرات، كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء‏.‏

فقد تبين أن الآية ليس فيها إضمار ولا تخصيص، ولا تدل على/ وجوب الوضوء مرتين‏.‏ بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة، وهو الذي عليه جماعة المسلمين، وهو وجوب الوضوء على المصلى، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ‏)‏ فقال رجل من حضرموت‏:‏ ما الحدث يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ فساء أو ضراط‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول‏)‏‏.‏

وهذا يوافق الآية الكريمة‏.‏ فإنه يدل على أنه لابد من الطهور، ومن كان علي وضوء فهو علي طهور، وإنما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثًا، كما قال‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتي يتوضأ‏)‏، وهو إذا توضأ ثم أحدث، فقد دلت الآية علي أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة، وإذا كان قد توضأ، فقد فعل ما أمر به‏.‏ كقوله‏:‏ لا تصلى إلا بوضوء‏.‏ أو لا تصلى حتى تتوضأ ونحو ذلك‏.‏ مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة، الشامل لأنواعها وأعيانها‏.‏ ليس مأمورًا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر‏.‏ ولا في اللفظ ما يدل على ذلك‏.‏

لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس، كمن أسلم/ فتوضأ قبل الزوال أو الغروب، أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت، بخلاف الوجه الذي قبله، فإنه يتناول هذا كله‏.‏